أود أن أستهل هذا المقال باعتذار صغير للقارئ الكريم. فقد يبدو عنوان المقال وكأنه يفيض بعصبية قومية أو انحياز عرقي، لكنني، ككاتبة أرمنية ولدت في سوريا، أكتب بدافع التوضيح وتصحيح المغالطات.
لقد شاع بين كثير من السوريين أن الوجود الأرمني في سوريا بدأ منذ فترة قصيرة، أي -بعد لجوء أجدادي عام – 1915- في أعقاب المذابح الأرمنية التي ارتكبتها الدولة العثمانية في محاولة لإبادة شعبنا، التي قال عنها المؤرخ الأرمني “رافائيل ليمكين”:
“ما حدث للأرمن لم يكن مجرد قتل جماعي، بل محاولة للقضاء على أمة بأكملها.”
وللتذكير، “ليمكين” هو من صاغ مصطلح “الإبادة الجماعية” لأول مرة.
ولكن، الحقيقة التاريخية أكثر عمقاً من مجرد هذه المأساة الحديثة. فالوجود الأرمني في المنطقة يمتد لآلاف السنين، إذ تشير أقدم الوثائق إلى تفاعل الأرمن مع الحضارات السورية وحضارات بلاد ما بين النهرين منذ 2300 سنة على الأقل. كان هذا التفاعل ضرورة اقتصادية وجغرافية، وقد أسهم بشكل بارز في تشكيل الهوية الثقافية الأرمنية وتطورها منذ بداية وجودها.
تفاعل الأمم مع الحضارة السورية عبر التاريخ
من المؤكد تاريخياً، أنَّ الحضارة السورية من أقدم الحضارات في العالم، وقد كانت لها تأثيرات كبيرة وعميقة على ثقافات الأمم المجاورة عبر التاريخ. وبفضل موقع سوريا الجغرافي، حيث كانت تقع عند تقاطع طرق التجارة البرية والبحرية التي تربط بين الشرق والغرب، استطاعت الحضارة السورية أن تلعب دوراً محورياً في تبادل الأفكار والمعارف مع الحضارات المجاورة. وهذه بعض الجوانب التي تأثرت بها ثقافات الأمم المحيطة:
- الكتابة والنظم اللغوية:
- سوريا كانت مهد الأبجدية الفينيقية، التي انتشرت لاحقاً إلى اليونان وروما، مما أدى إلى تطوير الأبجديات التي تشكل أساس معظم اللغات الأوروبية اليوم.
- بالإضافة إلى ذلك، اللغة الآرامية (التي كانت لغة سوريا القديمة) أصبحت لغة التواصل بين الشعوب في الشرق الأدنى لفترة طويلة.
- التجارة والاقتصاد:
- كانت سوريا محطة هامة في طرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير، الذي ربط بين الحضارات الكبرى مثل مصر وبلاد الرافدين وفارس.
- عبر التبادل التجاري، تأثرت الأمم المجاورة بالمنتجات السورية مثل الزجاج والمنسوجات والصناعات الحرفية.
- الدين والمعتقدات:
- العديد من المعتقدات الدينية والأساطير نشأت -و بعضها تطور- في سوريا وانتشرت إلى الحضارات المجاورة، مثل عبادة إله العاصفة “حدد” الذي كان له تأثير في الميثولوجيا الكنعانية والفينيقية.
ܐܠܗܐ ܕܣܥܪܬܐ ܚܕܕ
(تُنطق: “إِلها دِسَعرتا حَدَد”)
حيث:
ܐܠܗܐ (إِلها) تعني “الإله”
ܕܣܥܪܬܐ (دِسَعرتا) تعني “العاصفة”
ܚܕܕ (حَدَد) هو اسم إله العاصفة
- الفن والعمارة:
- العمارة السورية، خصوصاً في المدن القديمة مثل تدمر وأفاميا وأوغاريت، أثرت على الطراز المعماري في العديد من المدن المجاورة.
- كذلك، الفن السوري القديم، بما في ذلك الفخار والنحت، كان له تأثير على الأساليب الفنية في بلاد الرافدين، مصر، وفارس.
- القانون والإدارة:
- الحضارات المجاورة تأثرت بالنظم القانونية والإدارية السورية، مثل قانون حمورابي الذي تأثر بالقوانين التي كانت موجودة في مملكة إيبلا السورية.
- العلوم والفلك:
- العلماء والفلكيون السوريون، مثل أولئك الذين عاشوا في مدن مثل حلب ودمشق، ساهموا في تطور علم الفلك، والرياضيات، والطب، مما أثر على الأمم المجاورة مثل الحضارات اليونانية والرومانية.
من خلال هذه التبادلات، أصبح للحضارة السورية دور أساسي في تشكيل العديد من جوانب الثقافات المجاورة، التي استفادت من تواصلها الثقافي والتجاري والعلمي مع سوريا على مر العصور.
إضاءة على تفاعل الأرمن مع الحضارة السورية عبر التاريخ
لمعرفة تأثير الحضارة السورية على المجتمع الأرمني، وخاصة على المحطات الرئيسة التي تركت بصمات واضحة في تشكيل المجتمع الأرمني. لا بد من ذكر الشواهد التاريخية المرتبطة بكل فترة:
- الفترة الكنعانية والآرامية:
- العلاقات التجارية والثقافية: في الفترة الكنعانية، كانت الممالك السورية مثل أوغاريت وجبيل على اتصال مستمر عبر التجارة مع مناطق مثل الأناضول وأرمينيا القديمة. البضائع مثل الفخار، المعادن، والمنسوجات كانت تنتقل عبر هذه الطرق التجارية، مما ساهم في نقل التأثيرات الثقافية.
- اللغة والتأثير الآرامي: بحلول الفترة الآرامية، أصبحت اللغة الآرامية لغة رئيسية في الشرق الأدنى. انتشرت هذه اللغة إلى أرمينيا، حيث أثرت على اللغة والثقافة الأرمنية. كانت هذه اللغة وسيلة هامة للتواصل بين الأرمن والمجتمعات المجاورة.
من الجدير بالذكر، الكتابة بالحروف الأرمنية بدأت في عام 405 ميلادي، وذلك على يد القديس “ميسروب ماشدوتس”، وهو عالم أرمني ولغوي ورجل دين. “ماشدوتس” قام بتطوير الأبجدية الأرمنية بدعم من الملك الأرمني “فرام شابوه” والبطريرك “ساهاك بارتيف”. الهدف الرئيسي من إنشاء هذه الأبجدية كان ترجمة الكتب المقدسة (الكتاب المقدس) إلى اللغة الأرمنية وتعزيز الهوية الثقافية والدينية للأرمن بعد اعتناقهم المسيحية. وهكذا أصبحت الأبجدية الأرمنية رمزاً مهماً للهوية الوطنية والثقافية الأرمنية وساعدت في الحفاظ على اللغة الأرمنية وتوحيد الشعب الأرمني عبر العصور.
- فترة اعتناق المسيحية – قصة الملك أبجر الخامس:
- المسيحية في أرمينيا: كان لسوريا دوراً محورياً في إدخال المسيحية إلى أرمينيا. كانت مدينة الرها (حالياً أورفة في تركيا) مركزاً مسيحياً مهماً في سوريا القديمة، ومن هناك بدأت عملية تحويل الأرمن إلى المسيحية.
- الملك أبجر الخامس: قصة أبجر الخامس، ملك مدينة الرها،
قصة أبجر الخامس ومنديل المسيح هي واحدة من الروايات الشهيرة في التاريخ المسيحي الأرمني. بحسب التقاليد، يقال أن الملك أبجر الخامس كتب إلى “يسوع المسيح” طالباً الشفاء من مرض الجذام، وأرسل المسيح رسالة رد فيها، ووعد بإرسال أحد تلاميذه إلى المدينة. لاحقاً، أصبح الأرمن من أوائل الشعوب التي اعتمدت المسيحية ديناً رسمياً في عام 301 ميلادي، بفضل عمل القديس “غريغوريوس المنور” .
- الفتوحات الإسلامية والخلافة الأموية:
- الفتح الإسلامي لأرمينيا: بعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، دخلت أرمينيا تحت تأثير الخلافة الأموية. لعبت سوريا دوراً مهماً في الفتوحات، حيث أصبحت دمشق عاصمة الخلافة الأموية.
- التسامح الديني: خلال فترة الأمويين، كانت العلاقات مع الأرمن غالباً ما تكون مبنية على التسامح الديني مقابل دفع الجزية. انتقلت بعض التأثيرات الثقافية الإسلامية إلى أرمينيا من خلال التواصل التجاري والعسكري.
- الخلافة العباسية:
- التوترات والتحالفات: تحت الخلافة العباسية (750-1258)، حاول الخلفاء فرض سيطرتهم بشكل أكثر مباشرةً على أرمينيا. مع ذلك، كانت هناك فترات من التعاون، حيث أعطى العباسيون بعض الاستقلال المحلي للأمراء الأرمن.
- التأثير الثقافي والعلمي: بغداد، عاصمة العباسيين، كانت مركزاً للتعلم والعلوم، وقد تأثر الأرمن بالنهضة العلمية التي حدثت هناك، خاصة في مجالات الطب والفلك.
- الخلافة العثمانية – مجازر الإبادة الجماعية 1915:
- العثمانيون والأرمن: في الفترة العثمانية (1299-1922)، كان للأرمن وضع خاص بصفتهم “أهل الذمة”، حيث سمح لهم بممارسة ديانتهم مقابل الجزية. لكن في الوقت نفسه، تعرضوا للتمييز وأحياناً للعنف.
- سبب مجازر 1915: مع انهيار الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت السلطات العثمانية في اضطهاد الأرمن بشكل منهجي. تتعدد الأسباب وراء هذه المجازر، أبرزها:
- الشعور بالخيانة: اعتقدت الدولة العثمانية أن الأرمن يتعاونون مع القوى الغربية والروسية التي كانت تحاول تقسيم الإمبراطورية.
- القومية التركية: الحركة القومية التركية، التي قادتها جمعية الاتحاد والترقي، سعت إلى توحيد الشعوب التركية والقضاء على الأقليات العرقية مثل الأرمن.
- التوترات الطائفية: العلاقات المتوترة بين الأرمن والأتراك المسلمين تصاعدت مع الوقت، مما أدى إلى العنف الموجه ضد الأرمن في سياق أزمات الحرب.
هجرة الأرمن من سوريا بسبب الأزمة وتأثيرها على الاقتصاد السوري:
مع اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 وما تلاها من نزاعات مسلحة واضطرابات سياسية واقتصادية، واجه المجتمع الأرمني في سوريا، كما باقي الطوائف، تحديات كبيرة. الأرمن السوريون، الذين كانوا يتمركزون بشكل رئيسي في مدن مثل حلب ودمشق، وجدوا أنفسهم في موقف صعب نتيجة للعنف المتزايد والتهديدات الأمنية. أمام هذه التحديات، اختار العديد منهم الهجرة، ومعظمهم عاد إلى أرمينيا أو هاجر إلى دول أخرى مثل لبنان وكندا وأوروبا.
أسباب الهجرة:
- الظروف الأمنية والسياسية: الصراع المسلح وانتشار الفوضى في سوريا دفع الكثير من الأرمن إلى مغادرة البلاد بحثاً عن الأمان. الأرمن، كونهم أقلية دينية وعرقية، كانوا عرضة لاستهداف مباشر، ما جعل الهجرة خياراً ضرورياً للبقاء.
- النزاع مع النظام السوري: النظام السوري كان يعتبر الأقليات حلفاء طبيعيين له، لكن زيادة العنف واتساع نطاق الحرب جعل الأرمن وغيرهم من الأقليات في موقف دفاعي، مما أدى إلى فرارهم.
- التواصل التاريخي مع أرمينيا: بما أن الأرمن السوريين يحتفظون بروابط قوية مع وطنهم الأصلي أرمينيا، كانت العودة إلى أرمينيا خياراً منطقياً لكثير منهم، حيث قدمت الحكومة الأرمينية برامج دعم لإعادة توطينهم.
تأثير الهجرة على الاقتصاد السوري:
- خسارة الفعاليات البشرية: الأرمن السوريون كانوا يشكلون جزءاً مهماً من النسيج الاقتصادي، خاصة في مجالات مثل التجارة والصناعة والمهن الحرفية. هجرة الأرمن تسببت في فقدان مهارات وخبرات أساسية في هذه القطاعات، مما أضعف الاقتصاد المحلي في بعض المدن، لا سيما حلب حيث تقيم أكبر نسبة من أرمن سوريا فيها.
- تقلص التنوع الثقافي والاقتصادي: ساهم الأرمن في تعزيز التنوع الثقافي في سوريا، والذي انعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد من خلال مجالات مثل الحرف اليدوية والمهن الفنية والتجارة الدولية. فقدان هذا التنوع يمكن أن يؤثر سلباً على قدرة سوريا على إعادة بناء اقتصادها بعد الحرب.
- تراجع التجارة والأنشطة الاقتصادية: العديد من الأرمن السوريين كانوا يديرون شركات صغيرة ومتوسطة الحجم تعمل في قطاعي التجارة والصناعة. مع رحيلهم، أغلقت الكثير من هذه الشركات، مما أدى إلى تراجع النشاط التجاري في بعض المناطق.
التداعيات المستقبلية:
- صعوبة إعادة الإعمار: هجرة الأرمن وغيرهم من الكفاءات السورية ستصعب من عملية إعادة الإعمار، حيث تحتاج سوريا إلى جميع مواردها البشرية والاقتصادية -خاصة الصناعية- لتعافيها. غياب هؤلاء قد يؤدي إلى تأخر -جزئي- لتعافي الاقتصاد السوري في المستقبل.
- إضعاف العلاقات التجارية الخارجية: الأرمن السوريون كانوا يمتلكون شبكات تجارية قوية تربط سوريا بأوروبا وأرمينيا. ومع هجرتهم، تقلصت هذه الروابط، مما يضعف إمكانيات سوريا في تطوير علاقات تجارية دولية بعد الأزمة.
الخاتمة:
تأثرت الحضارة الأرمنية بشكل عميق بجيرانها عبر العصور، بدءاً من الكنعانيين والآراميين، مروراً بالتأثير المسيحي القادم من سوريا، وصولاً إلى الفتوحات الإسلامية وفترات الحكم الأموي والعباسي. كانت الفترات المختلفة مليئة بالتعاون، لكن في الوقت نفسه، شهدت لحظات من الصراع والاضطهاد، كما حدث في المجازر العثمانية عام 1915.
أما هجرة الأرمن السوريين ليست مجرد خسارة سكانية، بل هي خسارة لرأس مال بشري واقتصادي مهم. هذه الهجرة ستترك آثاراً سلبية على عملية إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية في سوريا مستقبلاً، خاصة في المجالات التي كان الأرمن يتفوقون فيها، مثل الصناعة والتجارة.